البيان 24 . فايننشال تايمز
تيج باريخ
يُعد الاختلاف أمراً شائعاً بين مراقبي الاقتصاد الكلي والأسواق المالية، لكننا نواجه حالياً تحليلات وتوقعات متباينة للغاية من المتداولين والاقتصاديين والمحللين، كما تكثر الاستفسارات حول المؤشرات المتضاربة في الاقتصاد العالمي وأسواق الأسهم.
وتتجلى الحيرة بدرجة أكبر في البيانات، ففي الولايات المتحدة، كان متوسط الانحراف المعياري لتوقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي التي وضعها خبراء التنبؤ المحترفون لعامي 2025 و2026 أعلى مما كان عليه في سنوات ما قبل الجائحة، وفقاً لبيانات جمعتها شركة «كونسينسس إيكونوميكس».
وبالمثل، يُظهر بحث أجراه بي إن بي باريبا فورتيس أن الاختلاف في توقعات النمو الاقتصادي في منطقة اليورو قد ارتفع بوضوح هذا العام.
كما ازداد الاختلاف بين واضعي أسعار الفائدة. كذلك، سلّطت محاضر اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في سبتمبر الضوء على تباين واسع في الآراء حول التوقعات الاقتصادية الأمريكية. ووفقاً لتحليل دويتشه بنك، ظل الانقسام كبيراً في بنك إنجلترا على مدار الأشهر الثمانية عشر الماضية.
وقد انعكس اضطراب بيئة الاقتصاد الكلي على الأسواق المالية. ويشير الارتفاع المزدوج في أسعار الأسهم والذهب جزئياً إلى إقبال المستثمرين القوي على المخاطرة ورغبتهم في الحماية من عدم القدرة على التنبؤ.
ويميل مؤشر فيكس – وهو مقياس لتقلبات سوق الأسهم – إلى الارتباط بمستويات عدم اليقين الاقتصادي. لكنهما انفصلا هذا العام.
ويشير مات كينج، مؤسس «ساتوري إنسايتس»، إلى أن هذا الانقطاع في الترابط قد يحدث عندما يكون عدم اليقين مرتفعاً لدرجة يصعب على المستثمرين استيعابه. إذن، ما الذي يقف وراء هذا الارتباك؟ هناك أربعة عوامل وتفسيرات عامة:
أول هذه العوامل هي البيانات، ففي جميع الاقتصادات المتقدمة، شهدت معدلات الاستجابة للاستطلاعات الاقتصادية الرئيسية انخفاضاً في السنوات الأخيرة. وفي مارس، وجد استطلاع أجرته صحيفة فاينانشال تايمز- بوث بين الاقتصاديين أن 90% من المشاركين لديهم مخاوف بشأن جودة البيانات الاقتصادية الأمريكية.
وفي الولايات المتحدة حالياً، يحول الإغلاق الحكومي دون إصدار الإحصاءات الوطنية، مما يحوّل تركيز مراقبي السوق إلى مصادر بيانات خاصة متناقضة أحياناً.
كما لاحظت كاتي مارتن، كاتبة عمود الأسواق في فاينانشال تايمز، مؤشرات لرقابة ذاتية بين الاقتصاديين والمستثمرين لتجنب إغضاب البيت الأبيض.
ثانياً: وصل عدم اليقين بشأن السياسة الاقتصادية العالمية إلى مستويات قياسية هذا العام. ففي العديد من الدول المتقدمة، يُعيق عدم الاستقرار السياسي وهشاشة المالية العامة مسار السياسة المالية والنقدية.
ولم تكن هناك سابقة تذكر للبرنامج الاقتصادي للرئيس دونالد ترامب – بما في ذلك رفع متوسط معدل التعريفة الجمركية الفعلي في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى له منذ 90 عاماً، والتلاعب باستقلال البنك المركزي، والحد بشكل كبير من الهجرة.
كما استغلت إدارة ترامب حالة عدم اليقين لخدمة هذه الأجندة – على سبيل المثال من خلال تغيير المواعيد النهائية والإعفاءات والشروط – مما يزيد من صعوبة نمذجتها.
ويعد عدم الوضوح بشأن ما إذا كان الرئيس سيفرض الرسوم الجمركية الإضافية الجديدة بنسبة 100% على الصين، والتي هدد بفرضها مؤخراً، خير دليل على ذلك. ونظراً للثقل الاقتصادي الأمريكي، فإن كل هذا الغموض يتردد صداه على الصعيد الدولي.
ثالثاً: يواجه الاقتصاد العالمي تغيرات هيكلية يصعب تقييمها بدقة. ومن بين هذه التغيرات الاتجاهات الجيوسياسية المتغيرة وأنماط التداول. وأكثر ما يفرض نفسه على الساحة حالياً هي الجهود المبذولة لقياس الإمكانات التحويلية للذكاء الاصطناعي. ويشير جوناس غولترمان، نائب كبير اقتصاديي الأسواق في كابيتال إيكونوميكس، إلى أن «هناك انقساماً بين من يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي مجرد فقاعة، ومن يعتقدون أنه هو الجنة الموعودة».
وفي الولايات المتحدة، يبدو أن معدلات تبني الذكاء الاصطناعي في قطاع الأعمال قد انخفضت في الأشهر الأخيرة، لا سيما بين الشركات الكبيرة.
وهذا يُذكرنا بدراسة حديثة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ووجدت أن 95% من الشركات لم تحقق أي مكاسب من استثماراتها في الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لا يزال عدد متزايد من الشركات يتوقع زيادة استخدام هذه التكنولوجيا في المستقبل القريب.
والفجوة بين الآثار المحدودة قصيرة المدى لسياسات ترامب المُغيرة للنماذج الاقتصادية وتداعياتها الاقتصادية الكبيرة طويلة المدى تُزيد من مساحة الالتباس.
وفي الواقع، يتفاقم تأثير ارتفاع الرسوم الجمركية وانخفاض عدد العمال الأجانب على إمكانات النمو بمرور الوقت.
ويقول إد الحسيني، مدير محفظة الدخل الثابت في شركة كولومبيا ثريدنيدل للاستثمارات: «تشهد السرديات تحولات حادة في الوقت الحالي، فمخاوف الركود، والضجة الإعلامية حول الذكاء الاصطناعي، ومكانة أمريكا كملاذ آمن، تتأرجح باستمرار».
وتغذي هذه العوامل الثلاثة العامل الرابع المسبب للارتباك الكلي: ما يُسمى بالاتجاهات على شكل حرف K تصف هذه الاتجاهات انتشار العوامل الاقتصادية الإيجابية (مع الارتفاع في رسم الحرف) مع العوامل السلبية المقابلة (الانخفاض في رسم الحرف).
تقول ليز آن سوندرز، كبيرة استراتيجيي الاستثمار في شركة تشارلز شواب: «هناك العديد من المواضيع المتباينة أو»على شكل حرف K في الاقتصاد والسوق. وهذا يجعل السرديات البسيطة أكثر عرضة لأخطاء التقدير».
وتتجلى هذه الأمور بوضوح في الولايات المتحدة. ويمكن تسليط الضوء على ذلك من خلال: الولايات المزدهرة مقابل الولايات المتعثرة، والإنفاق الرأسمالي للذكاء الاصطناعي مقابل الإنفاق الرأسمالي لغير الذكاء الاصطناعي، وإنفاق الأسر ذات الدخل المرتفع مقابل الأسر ذات الدخل المنخفض.
ومثال آخر هو كيف عوضت الأخبار الإيجابية غير المتعلقة بالرسوم الجمركية، بما في ذلك الحماس تجاه الذكاء الاصطناعي وتقارير الأرباح القوية، الصدمات والتداعيات السلبية للرسوم الجمركية على مؤشر ستاندرد آند بورز 500.
ويتساءل الكثيرون عن سبب بقاء النشاط الاقتصادي الأمريكي مزدهراً على الرغم من ضعف سوق العمل، والذي عادةً ما يُثير تحذيرات من الركود.
ويكمن جزء من الإجابة في الآثار المُضادة للإنفاق الرأسمالي على البنية التحتية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي.
وبالمثل، يُشير البعض إلى انخفاض الهجرة كمؤشر على أن انخفاض نمو الوظائف في الولايات المتحدة قد يكون مدفوعًا بالعرض لا بالطلب، وبالتالي فهو أقل إثارة للقلق، حسبما ينبه جوناس غولترمان من كابيتال إيكونوميكس.
وتُصعّب الديناميكيات المتقلبة تحديد الآثار الصافية، مما يُؤدي إلى حالة من عدم اليقين الكلي.
وأحيانًا، ينشأ التشويش من التركيز على إحصائية خاطئة، فعلى سبيل المثال يذكر كثيرون الارتفاع المحدود في مقاييس التضخم الأساسي كإشارة إلى أن رسوم ترامب الجمركية لها تأثير ضئيل على الأسعار.
لكن هذه المؤشرات الإجمالية تُخفي بوضوح ضغوطًا سعرية على السلع المعتمدة على الواردات.
والنتيجة النهائية هي مزيد من الارتباك. ولذلك، يمكن للاقتصاديين والمستثمرين النظر إلى المسألة الاقتصادية نفسها والتوصل إلى مجموعة متباينة من وجهات النظر.
ولذلك، قد يبدو الاقتصاد الأمريكي مرناً وهشاً في آنٍ واحد، وتبدو أجندة ترامب السياسية مُزعزعة أوغير ذات أهمية على نحوٍ غريب، وتشعر الأسواق بالبهجة والقلق في آنٍ واحد. وفي بيئة كهذه، يمكن أن يكون تكوين قناعات راسخة أمراً مكلفاً للغاية.